فرصة أخيرة للدبلوماسية: هل يتحول سد النهضة من فرصة للتعاون إلى سبب للتناحر؟

2020-05-23 11:23:26 Written by  بقلم: ياسين محمد عبد الله Published in المقالات العربية Read 2434 times

التفاصيل

نشر بتاريخ: 22 أيار 2020

الزيارات: 296

وصل الخلاف بين مصر والسودان من جانب وإثيوبيا من جانب آخر حول ملء وتشغيل سد النهضة إلى طريق مسدود في ظل إصرار إثيوبيا على المضي قدما في خطتها لتنفيذ المرحلة الأولى من ملء الخزان في يوليو القادم حتى دون موافقة البلدين.

في 6 مايو أعلنت وزارة الخارجية المصرية أن وزيرها سامح شكري بعث برسالة إلى مجلس الأمن الدولي يطلب فيها من أعضاء المجلس دعوة إثيوبيا للعودة إلى طاولة التفاوض حول سد النهضة واحترام التزاماتها الدولية.

قبل ذلك، في 10 أبريل تلقى كل من رئيس مصر عبد الفتاح السيسي ورئيس وزراء السودان الدكتور عبد الله حمدوك رسالة من رئيس الوزراء الإثيوبي ابي أحمد يطلب فيها منهما الموافقة على تنفيذ المرحلة الأولى من سد النهضة التي ستحجز إثيوبيا بموجبها 4.9 بليون متر مكعب في السنة الأولى وتحجز في السنة التالية 13.5 أي ما مجموعه 18.4 بليون متر مكعب. لم يوافق أي من البلدين على الخطة الإثيوبية.

استمرت إثيوبيا في التحضير لتنفيذ خططها بالرغم من الردود السلبية التي تلقتها من السودان ومصر. في 11 مايو عُقد اجتماع برئاسة رئيس الوزراء ابي أحمد وبحضور العديد من المسؤولين بينهم رئيس أركان الجيش الإثيوبي الجنرال آدم محمد، لمناقشة تقرير قدمه وزير الري سيليشي بيكيلي عن التقدم الذي تحقق في بناء السد. جاء في التقرير أن 85% من البناء الهندسي للسد قد اكتمل ووصل البناء الكلي إلى 76%، والأهم، ذكر التقرير أن التحضيرات للبدء في ملء السد في يوليو قد اكتملت.

وفي اليوم التالي، 12 مايو، حاولت إثيوبيا استمالة السودان إلى جانبها وطلبت منه التوقيع على اتفاق ثنائي يوافق فيه على خطتها للبدء في المرحلة الأولى من ملء خزان السد في الموعد الذي حددته لكن السودان رفض الطلب الإثيوبي وتمسك باتفاق ثلاثي يضم مصر.

في 18 مايو نشر الموقع الإثيوبي أديس استنادرد أن وزير الخارجية الإثيوبي جيدو أندارغاتشو أرسل رسالة إلى مجلس الأمن رداً على الرسالة المصرية قال فيها إن بلاده غير ملزمة قانوناً بأخذ موافقة مصر للبدء في ملء السد.

تبقى الآن حوالي 5 أسابيع للموعد الذي حُدد للبدء في ملء خزان السد، فهل ستستمر إثيوبيا في خططها أم ستتراجع حتى التوصل إلى اتفاق مع مصر والسودان؟ وإذا لم تتراجع عن قراراها ماذا سيكون رد فعل مصر المتضرر الأكبر في هذه الحالة؟

مصر وإثيوبيا .... تاريخ طويل من النزاع حول المياه

قال الرئيس المصري الراحل أنور السادات في 1978: " إننا نعتمد 100% على النيل في حياتنا وإذا حاول أي شخص حرماننا في أي وقت من حياتنا فإننا لن نتردد في خوض حرب ضده".

نصيب مصر بموجب اتفاق ثنائي عقدته مع السودان في 1959 هو 55.5 بليون متر مكعب من المياه بينما يبلغ نصيب السودان 18.5 بليون متر مكعب حيث قدرت كمية المياه التي تتدفق من نهر النيل إليهما بـ 74 بليون مترا مكعبا. لم تعترف إثيوبيا قط بهذه الاتفاقية التي لم تكن طرفاً لكن لم يكن بإمكانها فعل أي شيء حيالها حتى أعلنت في 30 مارس 2011 عن اكتمال خططها لبناء سد ضخم على النيل الأزرق من أجل توليد الكهرباء. تم التخطيط ليكون بمقدور خزان السد حجز 74 مليون متراً مكعباً في خزان السد ومن أجل توليد طاقة كهربائية تبلغ أكثر من 6000 ميغاوات. لا أدري إذا كان تحديد سعة خزان سد النهضة بـ 74 بليون مترا مكعبا جاء صدفة أم إن لها دلالات رمزية إذا أن سعة الخزان هي نفس الكمية التي تقتسمها مصر والسودان من مياه النيل ( ليس النيل الأزرق وحده) بموجب الاتفاقية الموقعة بينهما في 1959.

كانت إثيوبيا تجري سراً الدراسات لبناء السد منذ 2006 حسب تقرير لمجموعة الأزمات الدولية صدر في 20 مارس 2019، ويبدو أن الإعلان عن اكتمال الاستعدادات لبنائه بعد أسابيع قليلة من سقوط نظام الرئيس الراحل حسني مبارك، قُصد منه استغلال حالة الارتباك السياسي التي كانت تمر بها مصر.

إذا قامت إثيوبيا بملء خزان سد النهضة في 10 سنوات ستفقد مصر 14% من مياه النيل الأزرق المتدفقة إلى أراضيها بينما ستفقد 50% من هذه المياه إذا قررت إثيوبيا ملء السد في ثلاث سنوات.

إثيوبيا.... تطلع إلى ما هو أكثر من الفائدة الاقتصادية

كانت إثيوبيا في السبعينات، عندما وجه إليها السادات تهديده، متخلفة، منقسمة ومنهكة بسبب تفشي الفقر والجهل، الظلم والحروب التي كانت طرفاً فيها بما في ذلك حرب التحرير التي كان يخوضها الإريتريون ضدها. وكانت إثيوبيا معزولة إقليمياً ودولياً في ظل حكم منغستو هيلي ماريام الذي كان يرفع راية الاشتراكية ويتحالف مع المعسكر السوفيتي. إقليميا، كان السودان في ظل حكم جعفر نميري متحالفاً مع مصر وفي حالة عداء سافر مع نظام منغستو. وكان الصومال في حالة حرب مع إثيوبيا بينما كانت دول الخليج معادية لنظام منغستو بسبب سياساته وارتباطه بالمعسكر الاشتراكي وكان الغرب ينظر بتوجس للنظام الإثيوبي وسياساته.

عندما أعلنت إثيوبيا الشروع في بناء السد في 2011 كان وضعها الداخلي وعلاقاتها الإقليمية والدولية قد تغيرت تغيراً جذرياً. صار لدى إثيوبيا أحد أسرع الاقتصاديات نمواً في أفريقيا، قللت من مستوى الفقر كثيراً، وارتفع معدل مستوى التعليم. توقفت الحروب التي كانت تخوضها العديد من القوميات والحركات المعارضة المسلحة ضد الحكومة المركزية. والأهم من كل ذلك، حققت إثيوبيا قدراً كبيراً من الوحدة الداخلية كما لم يحدث في تاريخها من قبل.

لم تعد إثيوبيا معزولة إقليمياً أو دولياً. توقفت حرب في ومع إريتريا والصومال. العلاقة مع السودان تحسنت كثيراً كما أن دول الخليج مثل السعودية والإمارات ارتبطت معها بعلاقات جيدة وصارت تمتلك فيها استثمارات اقتصادية كبيرة. وعلى المستوى الدولي نجح ملس زيناوي في بناء علاقات متينة مع الغرب الذي صار ينظر إليه وإلى مشاريعه التنموية ودوره في محاربة الإرهاب بتقدير وإعجاب.

صار مشروع سد النهضة العظيم بمجرد الإعلان عنه موضوع فخر وطني للإثيوبيين حيث أشترى ملايين منهم سندات لتمويله. لم يكن ملس زيناوي يهدف للحصول على فوائد اقتصادية فقط من مشروعه الضخم إنما أراد أيضاً أن يجعله مصدراً للنفوذ الإقليمي عندما تشرع بلاده في بيع الكهرباء لجيرانها وتظهر بمظهر المتحكم في مياه النيل بعد أن فقدت إطلالتها على البحر الأحمر.

إثيوبيا ترفض الوساطة الأمريكية

يبدو أن قراءة مصر لهذه التحولات (التي سبقت اتفاق السلام بين إثيوبيا وإريتريا) هي التي جعلتها توافق على إعلان اتفاق المبادئ حول سد النهضة الإثيوبي الذي تم التوقيع عليه في الخرطوم بتاريخ 23 مارس 2015. يعد هذا الاتفاق تحولا كبيراً في موقف مصر تجاه ما كانت تسميه حقوقها التاريخية، وقد بشر ببداية حقبة جديدة من التعاون بين الدول الثلاث، لكن سرعان ما تبين أن التفاصيل الفنية للسد معقدة إذ فشل مفاوضو الدول الثلاث في حلها بعد جولات طويلة دامت لعدة سنوات.

عندما عجزت الدول الثلاث عن التوصل إلى اتفاق حول قضيتي ملء السد وتشغيله، طلبت مصر من الولايات المتحدة والبنك الدولي التدخل للمساعدة لحل الخلاف. في الفترة بين نوفمبر 2019 وفبراير 2020 واستجابة لدعوة من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عُقدت العديد من اللقاءات بين وفود تمثل الدول الثلاث في مقر وزارة الخزانة في واشنطن بمشاركة وزير الخزانة ستيفن منوتشين ورئيس البنك الدولي ديفيد مالباس، لكن المفاوضات لم تنجح في حل قضايا الخلاف. تقدمت الولايات المتحدة بمقترح لحل الأزمة. وفقاً لتسريبات نشرتها مواقع إلكترونية ينص المقترح الأمريكي على أن تطلق إثيوبيا 37 بليون متراً مكعباً من مياه النيل الأزرق التي تبلغ 49 بليون متراً مكعباً إلى دولتي المصب سنوياً، بينما اقترحت إثيوبيا أن تكون تلك المياه في حدود 31 بليون متراً مكعباً. وقعت مصر على مسودة الاتفاق المقترح من قبل أمريكا بالأحرف الأولى بينما قالت إثيوبيا إنها لن تقبله وأن الولايات المتحدة أصلاً ليست وسيطاً إنما مراقب.

الخلاف حول السد قد يهدد السلم والأمن في المنطقة

إذا كانت إثيوبيا ستتراجع عن ملء السد دون الاتفاق مع السودان ومصر عليها أن تفعل ذلك قبل وقت كافٍ قبل يوليو. وإن لم تتراجع فهي فستضع مصر أمام خيارات صعبة ليس فقط بسبب الضرر المادي الذي سيلحق بها إنما أيضاً بسبب التأثير المعنوي السلبي عليها بعد الجهود الدبلوماسية المكثفة التي بذلتها لإثناء إثيوبيا عن المضي قدما في خططها لملء السد قبل التوصل إلى اتفاق.

قد تلجأ مصر للخيار العسكري فتوجه ضربة جوية للسد لإيقاف العمل فيه وهذا الخيار محفوف بالكثير من المخاطر. لا يمكنني تقييم هذا الاحتمال من ناحية توافر الأدوات العسكرية والوسائل اللوجستية من عدمه، أو فيما إذا كانت إثيوبيا قادرة على منع تلك الضربة من الناحية العسكرية أم لا. ما أستطيع قوله هو أن أية ضربة عسكرية مصرية للسد ستترتب عليها تبعات خطيرة على البلدين وعلى علاقتهما على المدى الطويل وعلى المنطقة بأسرها. في هذه الحالة، ستخسر إثيوبيا بلايين الدولارات التي أنفقتها في بناء السد وسيتأخر مشروعها لسنوات طويلة قد تبلغ أضعاف السنوات التي ترفض الآن الموافقة عليها هذا بجانب آثار أخرى محتملة على البيئة وعلى علاقاتها مع السودان. لكن مصر أيضاً ستتعرض لمخاطر كبيرة إذا وجهت ضربة عسكرية للسد فإذا لم تتمكن إثيوبيا من المضي قدماً في إكمال بناء السد سيكون بإمكانها تحويل بعض مياه النيل وإنقاص حصة مصر من المياه دون أن تتمكن مصر من إيقافها عن طريق ضربة عسكرية جوية أخرى.

لكن هناك سيناريو آخر وهو أن تدخل المنطقة في دوامة من الصراعات الداخلية والبينية العنيفة.

الوضع في إثيوبيا اليوم ليس كما كان قبل عدة سنوات، فالبلاد تواجه مشكلات داخلية عميقة، فهي تعيش في خضم أزمة لم تشهدها منذ سقوط نظام منغستو في 1991. طرف الأزمة الرئيس؛ الجبهة الشعبية لتحرير تقراي، التي تم اقصاؤها من السلطة في مارس 2018 عندما اُختير ابي أحمد، الذي ينتمي لقومية الأورمو رئيساً للتحالف الحاكم وبالتالي رئيساً للوزراء ضد رغبتها، لعبت الدور الأكبر في إسقاط نظام منغستو وصاغت النظام السياسي والإداري للبلاد القائم على الفيدرالية الإثنية. لاحقاً وجه ابي أحمد ضربة كبيرة للجبهة الشعبية لتحرير تقراي عندما أعاد صياغة التحالف الحاكم وجعله حزباً سياسيا وطنياً وليس تحالفاً اثنياً.

تتخوف الجبهة الآن من أن يكون الهدف التالي لابي أحمد هو إلغاء الفيدرالية الإثنية بالتالي خسارة إقليمها الحكم الذاتي هي التي تأسست في البداية (تأسست في فبراير 1975) لتحقق انفصال إقليمها وبناء دولة مستقلة في تقراي. هناك أيضاً خلاف حاد آخر بين جبهة التقراي والحكومة المركزية حول تأجيل الانتخابات الإقليمية والوطنية وسبل معالجة الوضع الدستوري الناجم عن تأجيلها. اتخذت جبهة التقراي قراراً بإجراء الانتخابات في إقليمها في أغسطس القادم في تحدي لسلطة الهيئة المركزية المسؤولة عن إجرائها. كما ترفض الجبهة التفسير الدستوري الذي تريد الحكومة المركزية من خلاله تمديد مشروعيتها الدستورية التي ستنتهي في العاشر من أكتوبر القادم.

قومية التقراي هي التي خاضت أشهر المعارك ضد مصر في النصف الثاني من القرن التاسع في عهد الإمبراطور يوهنس الرابع وبقيادة أشهر عسكريها، راس الولا. وفي العصر الحديث هذه الجبهة هي التي جعلت من سد النهضة رمزاً لمقاومة هيمنة مصر على مياه النيل. مع ذلك قد تسعى جبهة التقراي للتحالف مع مصر ضد الحكومة المركزية. للإثيوبيين تاريخ في التحالف مع الأجانب في صراعاتهم على السلطة، فقد تعاون الإمبراطور يوهنس الرابع مع حملة نابير البريطانية في 1868 ضد الإمبراطور تيدروس الثاني، وتحالف منيليك الثاني بعد ذلك مع الإيطاليين ضد الإمبراطور يوهنس.

قد ترى الجبهة الشعبية لتحرير تقراي التقراي في تشدد ابي أحمد محاولة منه لتوحيد الجبهة الداخلية حوله في صراعه معهم. إذا كان ابي أحمد يعتقد أنه سد الثغرة التي كانت تمثلها إريتريا في أمن بلاده القومي فهو قد فتح، ثغرة أخرى قد تكون أكبر وأشد تصميماً على محاربته.

هذا السناريو إذا تحقق سيعيد المنطقة إلى عقدي السبعينات والثمانيات عندما كانت بلدانها تخوض العديد من الحروب، شعوبها تعاني من المجاعات وتُجبر على اللجوء والنزوح.

الفرصة الدبلوماسية الأخيرة

الحل الأمثل للبلدين وللمنطقة هو العودة إلى طاولة التفاوض. يبدو السودان، بالرغم من إنه طرف في هذه العلاقة الملتبسة، أفضل وسيط ممكن في هذا النزاع. لقد تصرفت الحكومة السودانية، بالرغم من الصعوبات الكثيرة التي تواجهها، بحكمة حيال هذه الأزمة، تحفظت على بيان الجامعة العربية الذي ساند مصر في خلافها مع إثيوبيا في موضوع السد ورفضت التوقيع على اتفاق ثنائي حول البدء في ملء السد. ولأن السد يقوم على بعد حوالي 40 كيلومتر من حدوده، سيكون للسودان دور مهم في الحفاظ على سلامته كما يتوقع أن يكون السودان أكبر المتضررين إذا انهار السد. ويتوقع أن يكون السودان ايضاً أول المشترين للكهرباء التي سيولدها السد. لذا تبدو جهود رئيس الوزراء السودان الحالية؛ خصوصاً إذا وجدت دعم المجتمع الدولي والإقليمي، الأكثر حظاً في النجاح حيث يتوقع أن يتعاطى معها الطرفان بمرونة نسبة لمحورية الدور السوداني في هذه المعادلة.

السد مشروع وطني اقتصادي ضخم وقد تحقق الكثير على طريق إكماله وليس من الحكمة أن تعمل إثيوبيا على إكمال الجزء القليل المتبقي منه في جو من الخصومة، التحدي والاضطراب فيفقد المشروع أحد شروط نجاحه واستمراريته.

ياسين محمد عبد الله

باحث مهتم بشؤون القرن الإفريقي

This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.

Last modified on Saturday, 23 May 2020 13:27