مع سيوم عقباميكائيل في الساعات الأخيرة
2016-01-05 21:14:21 Written by بقلم/ دبساي بيني Published in المقالات العربية Read 3737 timesقبل عشر سنوات من الآن قضى المناضل/ سيوم عقبا ميكائيل رئيس جبهة التحرير الارترية – المجلس الثوري آنذاك يوم السادس عشر من ديسمبر 2005م بمكتب التنظيم بأديس أبابا، كان سيوم قد قدم الي العاصمة الاثيوبية أديس أبابا في السابع والعشرين من نوفمبر 2005م في مهمة تنظيمية ونزل بفندق يوردانوس – الغرفة ( 206 ) وفي ذلك اليوم ( 16 / 12 / 2005م ) تغدَّى مع رفاقه أعضاء المكتب وفي الثالثة والنصف عصراً اتجه الي الفندق حيث يقيم، وَوَعَـدَنا أن يعود الينا مساء ذات اليوم وفي حال تعذر ذلك أن يأتينا صباح الغد. لكن لأنه كان يشكو من إحساس بالفتور والتوَعُّـك لم يأتنا في موعده المسائي وانتظرنا موعده الآخر الصباحي بغير قلق.
صادف اليوم التالي الأحد العطلة الأسبوعية، وبينما كنت أتأهب للذهاب الي مكتب التحالف الديمقراطي الارتري (حيث مقر العمل المشترك للمعارضة ) اتصل بي سيوم طالباً مني الحضور اليه في الفندق، وكانت الساعة تشير الي السابعة، ولأن الفندق كان قريباً من مكتبنا لم ألبث أن وصلت اليه، وفي غرفته اجتمعنا نحن الثلاث، شخصه وأنا ومنقستئاب أسمروم (رئيس حزب الشعب الديمقراطي) الذي أتى معه الي اثيوبيا في نفس المهمة التنظيمية، وجدنا سيوم وقد ترك السرير وجلس علي كرسيٍّ مضاعِـفاً علي جسده الأغطية، وأخبرنا أنه بالفعل قد توعـَّــكَ، ووصف لنا حاله بالقول: إنه يشعر بالبرد وآلام (طعنات) في الصدر، وأضاف: قلتُ قد تتحسن حالتي بالاستحمام فما ازددت إلا سوءاً. لذلك قررنا التعجيل بأخذه الي أقرب مكان للعلاج، فأخذته أنا وذهبت به الي أقرب عيادة، لكن للأسف وجدنا العيادة مغلقة نسبةً للعطلة الأسبوعية، فذهبنا بالتاكسي الي أخرى، ونسبةً لأن الوقت كان ما يزال فجراً حيث تقل زحمة السيارات سرعان ما وصلنا الموقع، ولأن الدوام لم يبدأ بعد لم نحصل علي الطاقم الطبي المسئول من العلاج، نصحنا الطبيب المناوب بأن نعطي المريض حقنة مهدئة للألم تمكنه من انتظار الطبيب المختص وبالفعل أحضرت الحقنة من صيدلية العيادة وحُــقـِــنَ بها.
وأثناء انتظارنا للطبيب سألته ما إذا كانت الحقنة قد حسنت من وضعه؟ فأجابني: نعم، ولكنه قال متبرماً من تأخر الطبيب: لقد تأخر، متى موعده؟ حضر الطبيب في حوالي الثامنة والربع،وبما أننا كنا أول الواصلين للعيادة كنا أول من دخل الي الطبيب. وبعد تفحصه قليلاً قرأت في وجه الطبيب تعبيرات تدل علي هلعه وانزعاجه مما وجد عليه المريض سيوم من تأخر حالته، أنا الآخر وبعد أن كنت أستسهل الحالة أثر عليَّ ما قرأته في وجه الطبيب من انزعاج فانتابتني المخاوف وبعد أن تفحص الطبيب مريضنا بمختلف الأدوات الطبية أخذه علي كرسيٍّ متحرك الي غرفة أخرى، وهناك توقفت أقدام سيوم عن الحركة وهي التي لم تعرف السكون والتوقف يوماً، ومن تلك التغيرات المتلاحقة علي حالة سيوم تصاعدت مخاوفي أكثر فأكثر، وبعد قليل كتب الطبيب أمراً في قصاصة ورقة بأخذ سيوم بسيارة الإسعاف الي مستشفىً كبير يقع بالقرب من الإستاد. وبحكم قرب موقع تواجدنا ذاك من مكتب المجلس الثوري حينها سرعان ما أخذت معي من المكتب مبلغاً مالياً إضافياً لشعوري بقلة ما كان لديَّ من النقود، وبعدها وصلت بنا السيارة الي المستشفي المذكور الذي لم يكن يبعد عن مكتبنا كثيراً. في الطريق الي المستشفي سألته عن حاله، فأجابني بصوته المعتاد: أنه لا بأس به، لكن أزيز صدره لم يتوقف، ثم أمرني بالاتصال بالسيد/ قبراي كي يأتينا في المستشفى بسيارة، وبالفعل وصل قبراي وانتظرَنا هناك، بعد ذلك وحتى لا أسبب له المزيد من التعب والألم لم أوجه له المزيد من الأسئلة، وكان كلانا أنا وسيوم نحدث أنفسنا ساكتين، وصلنا بسرعة لقرب المكان وسرعة السيارة، وكالمعتاد بمجرد سماع طاقم المستشفى صوت السيارة المألوف لديهم كثفوا من استعداداتهم لاستقبال سيارة الإسعاف وساعدوني علي إنزال المريض وأخذه الي سرير بقسم الطوارئ والحالات المستعجلة، وقبل وصول الطبيب سألني سيوم ما إذا كان المستشفى حكومياً أم خاصاً؟ فأجبته أنه خاص، فأجابني: إذاً سوف تكون فاتورته عالية، ألا نذهب الي مستشفىً حكومي أقل تكلفةً من الخاص؟ فرددت عليه أن هذا أمر ننظر اليه في وقتٍ أوسع، لنكشف علي حالتك هنا أولاً ثم نقرر الخطوة التالية. بعد ذلك قطعنا الحديث الذي قطعه علينا الطبيب الشاب الدكتور/ يوناس الذي أتانا مسرعاً بعد نظره القصاصة القادمة من الطبيب السابق، الدكتور يوناس أمرني بالخروج من الغرفة فخرجت، كانت تلك النظرات القلقة التي ألقيها عليه وأنا أغادر الغرفة آخر عهدي بالشهيد سيوم.
بعد تفحصه لسيوم أشار الدكتور يوناس لزملائه الأطباء فرأيتهم يتسابقون نحو غرفة الطوارئ التي يوجد بها سيوم، واستبد بي القلق والهلع، وبدأت أذهب مذاهب أبعد من كون الأمر أم مرض، أي وضعت في خاطري الموت أيضاً، ومن خلال الباب الذي لم يحكم إغلاقه شاهدت الأطباء محيطين بسرير الشهيد/ سيوم، ومن حركة الأطباء أدركت أن سيوم في أنفاسه الأخيرة، وبعد دقائق وفي حوالي العاشرة صباحاً سمعت من مدير المستشفى الذي لا يحضرني الآن اسمه ينادي علي مرافق السيد/ سيوم عقباميكائيل، أنا والسيد/ قبراي قبريسوس صديق ورفيق نضال الشهيد/ سيوم القديم يحدونا الأمل في شفاء مريضنا خففنا ملبين نداء المدير، لكنه أجابنا أن قلب السيد/ سيوم قد توقف عن العمل لكن الأطباء إذا حالفهم العون من الله تعالى فإنهم يبذلون أقصى مساعيهم لتدارك حالته، السيد/ قبراي سأل المدير: هل من الممكن التعاون معنا بنقله الي مستشفىً أكثر تقدماً أو حتى نقله الي الخارج؟ لكن الطبيب الذي كان يعرف المدى الحقيقي لما وصلت اليه الحالة أجابه باقتضاب: أن القيام بذلك قد فات أوانه، ثم عاد الي الغرفة التي كان يصارع فيها الشهيد الأنفاس الأخيرة من عمره، عند ذلك حدَّث كلٌّ منا نفسه أن سيوم والموت قد تقاربا، لكن لم يجرؤ أيٌّ منا أن يعلن أن سيوم سوف يموت أو قد مات بالفعل.
في الأثناء وبعد أن شرحت لهم حراجة الموقف تقاطر الي المستشفى كل المتواجدين حينها بالمكتب من رفاقنا، منقستئاب أسمروم، جمع أحمد، قبرهيوت طقاي، تخلاي تسفاقابر وأخذوا يتابعون معنا وضع المريض عن قرب.
في حوالي الحادية عشرة والنصف دعانا المدير ثانيةً، وذهبنا اليه مسرعين فسلمنا فاتورة بمبلغ 194 بر اثيوبي لنسلمها لقسم الحسابات ونعود اليه بالإيصال المالي، استلم الإيصال وأخبرني بصوتٍ حزين ومتألم لألمنا أن جهودهم في إنقاذ مريضنا السيد سيوم لم يحالفها النجاح ومن ثم دعا لنا بالصبر وحسن العزاء وتركنا وانصرف الي عمله. بذلك كـُـتِــبَ عليَّ أن أكون الشاهد والسامع الأول لآخر كلمات سيوم ومشهد وفاته، وفور ذلك قمت بإبلاغ الخبر لمجموعة الزملاء الذين ذكرت أسماءهم أعلاه ويومها ( 17 / 12 / 2005م ) وإن كانت الشمس مشرقةً والجو صحواً أظلمت الدنيا في أعيننا.
بعد أن تجاوزنا تلك اللحظات العصيبة انتقلنا الي المشكلة الكبرى التي تصادف كل من يموت خارج وطنه، ألا وهي تعقيدات إجراءات الدفن وما اليه، نحن الأحياء وضعتنا الأقدار وفجائية الموت أمام مهام جديدة كان لابد لنا من إنجازها دون إبطاء. بعضنا من قيادة التنظيم ذهب الي السفارة الهولندية لإبلاغ الجهة التي يحمل الشهيد جوازها، بعضنا شرع في إجراءات تجهيز وإخراج الجثمان، ولأن إجراءات الدفن يسبقها فحص الجنازة فقد أحضرنا من حانوتي بالقرب من المستشفى صندوق النعش وعربة خاصة بحمل الجثمان، ثم طلبنا نقلنا لمستشفىً حكومي للفحص الطبي، لكن صادف اليوم العطلة الأسبوعية فأخذنا موعداً ليوم غدٍ الاثنين، وتركنا شهيدنا بين الموتى وخرجنا نجرجر الخطى في حوالي الثالثة عصراً واجتمعنا جميعاً في مكتبنا لنعقد اجتماعاً ترأَّسه منقستئاب أسمروم، وهناك تمالكنا حزننا وتقاسمنا المهام بيننا، صباح الاثنين ذهب البعض الي حيث الفحص الطبي بمستشفى منليك الحكومي والبعض ذهب الي كلٍّ من السفارة الهولندية ووزارة الخارجية الاثيوبية لتدبير أمر ترحيل الجثمان الي هولندا، قِــسـْـمُـنا الثالث كان عليه التواجد بالمكتب لاستقبال المعزين وخدمة الضيوف.
يوم الاثنين الموافق للتاسع عشر من ديسمبر 2005م أنجز المكلفون منا بمتابعة الجثمان مهام الفحص والتحنيط بما يتناسب والرحلة الطويلة نسبياً التي سوف يقطعها من اثيوبيا الي هولندا، بالتالي فرغ الكل من إنجاز مهمته. وبعد التأكد من جاهزية الجثمان للتسفير في يوم الثلاثاء الموافق للعشرين من ديسمبر 2005م قمنا بالحجز علي طائرة الخطوط الاثيوبية المتجهة الي هولندا. وفي ظهيرة ذلك اليوم أتاح لنا مستشفى حياة الحانوتي الذي تولى تجهيز الجثمان للسفر قاعة لترتيب برنامج توديع الجثمان بإقامة برنامج تأبين مختصر الفقرات، حيث تليت السيرة الذاتية للشهيد وألقيت بعض القصائد الشعرية، لقد امتلأ المكان بالبشر ارتريين واثيوبيين رسميين وشعبيين يتقدمهم قادة وكوادر وأعضاء جميع التنظيمات السياسية الارترية، وحضر من الجانب الرسمي الاثيوبي كلٌّ من السيد/ سبحت نقا من جبهة الإهودق (الائتلاف الحاكم) والسيد/ سليمان السفير بوزارة الخارجية الإثيوبية والسيد/ هيليكيروس قسسي سفير اثيوبيا بالصين حينها، والسيد/ حبور قبركدان مدير منتدى صنعاء (صنعا فورَم) وآخرون.
في العاشرة مساءاً من ذلك اليوم وَدَّعْــنا الجثمان الي هولندا برفقة الأخ/ جمع أحمد ليكون في استقباله رفاق الشهيد من قيادة التنظيم وزوجته السيدة/ أزمارا هيلي، ومن ثم طوينا سرادق العزاء المقام بأديس أبابا.