الافتتاحية

2014-12-05 20:26:05 Written by  EPDP Editorial Board Published in EPDP Editorial Read 3527 times

الأوضاع في ارتريا واضحة كالشمس للقاصي والداني، لذلك لا نستعين بشرحها إلا علي سبيل التقديم، وقد بحت أصواتنا ونحن ندق نواقيس الخطر محلياً واقليمياً ودولياً. وقد وصف الكثير من المراقبين ارتريا بالدولة الفاشلة وما يشبه ذلك من ألقاب ونعوت. وأخيراً زعم البعض أن ارتريا ( قد ماتت ). لكن كل تلك التأوهات المتشائمة لن تقتل فينا الأمل والعشم في أن يشرق فجر التغيير وتنبعث ارتريا من موتها من جديد.

لقد تضافرت أسباب عديدة علي وصول ارتريا الي وضعها المزري الذي تعيشه اليوم، لكن يأتي في مقدمة تلك الأسباب والمسببات وجود حزب الهقدف علي سدة الحكم فيها، فهو المسئول الأول عن كل ما جرى ويجري لارتريا في عهده المشأوم. وإذا كان من الممكن السؤال عن السبب وراء إصرار الهقدف علي مواصلة ارتكاب هذا الجرم بحق بلادنا وشعبها، فإن الإجابة أكثر تعقيداً من سهولة السؤال. وما يعقد الإجابة هو ليس عدم وجود جواب علي هذا السؤال، إن ما يعقدها هو أننا نحن الذين نسأل هذا السؤال الذي لن نجد له جواباً من الهقدف، بالطبع يقدم كلٌّ منا مشروع إجابته علي هذا السؤال الجوهري، لكننا نختلف ونتباين تماماً في مشروع الإجابة، نقطة أو معضلة الخلاف الرئيسية في إجابتنا هي أنه بالرغم من وضوح معاداة النظام السافرة لكل ما هو ارتري وطناً وشعباً يتكرم بعضنا بتفصيل قميص ضيق لعدائية النظام لمجمل الشعب يقصر تلك المعاداة علي فئة دون أخرى ويحصر محاباته علي فئة دون أخرى. فالبعض منا يصف النظام بأنه يمثل المسيحيين، والبعض الآخر يعتبره نظاماً تجرنيوياً، بعضنا يعتبره اقليمياً ينحاز لاقليم بعينه. في رأينا أن قصر دائرة إدانة النظام الواسعة علي فئة بعينها أو منطقة بعينها إنما يعتبر رديفاً إضافياً مساعداً يضيف المزيد من الراحة والترف علي عرش التناقضات الثانوية والنعرات الطائفية الذي يتمدد عليه، يزيده قوةً علي قوة ولا يؤذيه في شيء. لذلك ففي مؤتمره الأول وصف حزبنا في قراراته السياسية النظام بأنه بخلاف تاكتيكاته الهادفة الي تفريق قوى الشعب وتضليل رؤاه وتمويه هوية النظام الحقيقية فإنه ليس صديقاً أو قريباً لقوة بعينها ولا عدواً لقوة أخرى، بقدرما هو عدو الجميع.

لا يمكن الحديث عن أي شأنٍ ارتري بمعزل عن التنوع أو التعدد، وعندما يدار هذا التنوع الشامل بحكمة وحنكة فإنه ثراء وقوة لنا، وهذه حقيقة أثبتها كفاحنا الوطني التحرري الذي هو قلادة شرف علي جبين تعددنا وتنوعنا. وبالفعل عندما تعاملنا مع تعددنا بأساليب غير راشدة أصبح التعدد من عيوبنا ومن نقاط ضعفنا وعوامل تفرقنا كما هو حادث الآن. وهذا ما فعله نظام الهقدف تماماً، إنه قسم كل شيء وفرق بين كل زوج من الكائنات الارترية، لذلك أطال عمر نظامه وقصف شباب بلاددنا وهي في عمر الزهور. لكن شعبنا بوعيه وحكمته دائماً يختار الأساليب الأنجع لحل مشكلاته، لذا عليه أن يسمع العالم صوته بأن "التوتر ليس في مصلحة أحد"، كما يجب أن يعلم شعبنا أن كل ما يقوم به الهقدف في الداخل إنما هو الخراب العام الذي لا يستثني بشراً ولا حجراً. وعلي كل من تفوت عليه أضاليل الهقدف فيظن أن الهقدف إنما يعمل علي خدمته أن يعلم أن ما يتبعه الهقدف من تكتيكات التضليل والتمزيق ليس إلا في مصلحة فئة جد ضئيلة من حارقي البخور الملتفين حوله في أضيق حلقة من المصالح الذاتية البحت.

إذا كان ديدن الهقدف أن يعيش وينتعش في هذه البيئة القذرة فما الذي يجب علينا نحن الذين يفترض أن تكون مهمتنا العمل علي إنقاذ شعبنا ووطننا، أي طريق نسلك؟ مبدئياً وموضوعياً هذا سؤال سهل الإجابة. يجب ألا نقع في الفخ النضالي الذي يتوقع النظام أن نقع فيه ويعمل هو علي استدراجنا اليه. إذا كان الطريق النضالي المفخخ هو طريق التشرذم والصراعات الجانبية، فإن الطريق الآمن والسليم هو المواجهة المستندة علي أسس ومبادئ وحدوية ووطنية عامة. وهذا الطريق هو الذي يجب أن نسلكه في محاربة الهقدف وهو الأسلوب الناجع والمضمون لاستئصاله من جذوره. كما يجب أن نعلم أن أساليب وتكتيكات الهقدف التمزيقية الماكرة لا تقتصر علي ما ذكرنا فقط، فحتى الانقسامات والانشطارات داخل التنظيمات السياسية أو المنظمات المدنية تصب هي الأخرى في مصلحة الهقدف. هذا ولما كان التشرذم التنظيمي في صالحه فهو يهتم كثيراً بصب الزيت علي نار الخلافات الداخلية داخل كل تنظيم علي حدة وبين كل مجموعة أو تنظيم وآخر.

أما نحن فيجب أن نسلك الطريق الوحدوي الذي يجمع ولا يفرق، ويقرب ولا يبعد ولا يقصي، بل يجب أن نبذل أغلى التضحيات في سبيل ذلك. هذا بالطبع لا يعني أن نلغي حق الخلاف في الرأي بيننا، ولا أن لا ينتج عن تباين الرأي عدد كبير من التنظيمات ذات وجهات النظر الفكرية المتباينة. ذلك أننا نعتبر التعدد الحزبي والفكري جزءاً لا يتجزأ من أعمدة النظام الديمقراطي ومبدأ رئيس من مبادئ حقوق الانسان. بيد أن حق التعدد التنظيمي ليس بالحق الفوضوي الذي لا يراعي ظروف وحساسيات المجتمع ولا يتقيد بقوانين تنظيم الأحزاب. لابد أن نراعي في تكويننا الحزبي الموضوعية ونقيم بناءنا التنظيمي علي أسس موضوعية مبررة. والتحدي الماثل أمامنا نحن المناضلين من أجل التغيير هو ألا يكون تعددنا عائقاً أمام وحدتنا في مقاومة النظام، ولا حاجزاً بيننا وبين ثقة الشعب بأكمله. إن الاختلاف والتشرذم لا يستنزف طاقاتنا فحسب، بل يقلل من وزننا في نظر الشعب ويجعلنا أضحوكة ونموذج لانعدام المنطق، فكيف يرجو منا الشعب توحيده ونحن لم نوحد أنفسنا؟! بل يقف هذا عائقاً بيننا وبين إيصال صوتنا للعالم الخارجي، لأن من لا يملك الوزن والسند الشعبي لن يجد آذاناً صاغية. أمامنا الكثير من الدروس والتجارب التي يجب علينا الاستفادة منها.

إن حالة الانعزال والتباغض التي نعيشها اليوم لا تسر إلا العدو. وكل من يرانا علي هذه الحال البائسة لا شك سوف يشك كثيراً فيما إذا كان أمر شعبنا وبلادنا يهمنا بأي قدر من الاهتمام. إن النظام بالطبع سوف يكون مسروراً للغاية كلما ولد في الساحة السياسية هيكل تنظيمي جديد أعرج ضعيف ومهلهل البنية والأرضية السياسية والتنظيمية، مثل أن يولد تنظيم جديد علي أساس اقليمي مثلاً. وبذلك نزداد مأساةً علي مأساة. لقد أقر مؤتمرنا في قراراته السياسية المشار اليها آنفاً أن " حزبنا وإن كان يؤمن بنظام تقسيم اداري اقليمي جديد قائم علي التوازن الاقتصادي والسياسي فإنه وحتى يتم ذلك أو ينظر في أمره وفق نظام دستوري شرعي فإن التقسيم الجغرافي الاداري السابق لتقسيم الهقدف الاقليمي هو الذي يجب العمل به".

لماذا يعتبر تكاثر التنظيمات أحد الأمراض المزمنة لمعسكر المعارضة الارترية؟ هذا السؤال من أكثر الأسئلة تردداً في أفواه الناس عند حديثهم عن المعارضة. وفي حين يتم العمل علي تضييق شقة الخلاف بين التباين غير المبرر بين التنظيمات ومحاولة تقليص أعدادها تأتي الأخبار بالجديد من ظهور مواليد جدد في سجل التنظيمات والجمعيات والمنظمات، بعض تلك التنظيمات أو المنظمات الجديدة تبرر ولادتها بأن الأوعية التنظيمية السابقة لم تعد مقنعةً ولا مجدية. وعندما يتم التساؤل عما إذا كان الخلل في الترحال التنظيمي من وعاء الي وعاء أم في العناصر البشرية الراحلة أو المرتحــَــل عنها تصعب الإجابة علي منظري قيام التنظيمات الجديدة. هنا يجب أن ننتبه الي حقيقة أن التنظيم دائماً ليس فقط وعاءاً يستوعب عدداً كبيراً من الناس، إنما هو في الأساس بوتقة تتشارك وتتلاقح وتنصهر فيها عددية كبيرة من الأفكار. هذا التلاقح والتلاقي بين الأفكار والناس لا ينحصر علي التنظيمات فحسب، بل يتعداها الي الجبهات والتحالفات والائتلافات. ومن يختار المشاركة في هذه المعمعة ويكون جزءاً من جدلية وسيرورة تلاقح وصراع وتآلف الأفكار يجب أن يكون مستعداً لأن يكون شريكاً في الفوز والخسارة لفريقه، وليس الفوز الدائم له وحده ونسب الخسارة للآخرين. وكل محاولة لاحتواء الأفكار الأخرى والافتئات علي الشركاء سوف تؤدي الي خلافات حادة لم تكن في الحسبان تؤدي بدورها الي انشطارات في الجسم الواحد. من هنا يتضح أن الخلل لم يكن في الوعاء التنظيمي الذي اخترنا العمل ضمنه سوياً، بل في عدم القدرة علي استيعابنا للأشخاص المكونين للتنظيم والذين من المؤكد ليسوا علي رأي أو قلب رجلٍ واحد. الحل إذن في تحمل الخلاف في الرأي والصبر علي ما لم نكن نتوقعه من هزيمة لأفكارنا واستخلاص الدروس والعبر مما مر بنا، وليس في تغيير ميدان معركتنا أو وعائنا التنظيمي. بل يجب أن نعلم أنَّ ما هـَـرَبْــنا منه من ضيق الوعاء التنظيمي السابق كالخلافات الفكرية وحتى الشخصية سوف ينتظرنا في وعائنا التنظيمي الجديد أيضاً، فهل نريد أن تكون حياتنا كلها ضيقاً بالرأي الآخر وهروباً منه. لن يختار عاقل هذا المسار الهروبي الي الأمام حيناً والي الخلف حيناً.